هناك أناس حول العالم - من مختلف الأديان والثقافات - يؤمنون بالمس الشيطاني , وهناك آخرون لا يعدونه سوى ضربا من ضروب الوهم والدجل ووسيلة قذرة للاحتيال على البسطاء , يؤمن هؤلاء بأن جميع حالات ما يسمى بالمس الشيطاني هي في حقيقة أمرها أمراض نفسية تنعكس آثارها على شخصية وسلوك المصاب , كأن يقوم بتغيير نبرة صوته ويتحدث بضمير شخص أخر , أو أن يقدم على تصرفات غير سوية مثل الاعتداء بالضرب والسب على أفراد عائلته والمقربين منه دونما سبب ..
لكن إذا كانت بعض الأمور مثل تغير الصوت وتبدل السلوك مفهومة وقابلة للتفسير .. فما هو تفسير من يقوم بأمور خارقة للطبيعة مثل التكلم بلغة لا يعرفها .. تحريك الأشياء عن بعد .. الطيران في الهواء ..
أو إنزال المطر من سقف الحجرة ؟! .. كما فعل بطل قصتنا ..
المشككون يقولون بأن أغلب ما يروى حول إجتراح الممسوس لأفعال خارقة للطبيعة هي في حقيقة أمرها مجرد قصص غير موثقة لا يوجد ما يؤكدها ..
لكن قصة دون ديكر (Don Decker ) تختلف عن بقية القصص بوجود شهود عديدين أكدوا حدوثها , وبعض هؤلاء كانوا من رجال الشرطة والقانون ..
لكن مهلا .. من هو دون ديكر ؟ ..
دون أو دوني كما يطلق عليه أصدقاءه , هو رجل أمريكي ولد ولاية بنسلفانيا . عاش طفولة معذبة ومضطربة , وانتهى به الأمر إلى السجن لقضاء عقوبة مدتها عام واحد بعد أن أقدم على السرقة من محل تجاري .
في عام 1983 , حين كان في الواحدة والعشرين من عمره , حصل دوني على تسريح مؤقت من السجن مدته أسبوع لحضور جنازة جده . في الواقع لم يكن دوني حزينا على جده , بل بالعكس , كان يشعر براحة كبيرة لرحيل ذلك العجوز القاسي الذي طالما آذاه نفسيا وجسديا منذ أن كان طفلا في السابعة من عمره , وهو سر لم يكن يعلمه الكثيرون .
دوني وصل إلى بلدته وحضر جنازة جده , وقف قبالة جثمان العجوز القابع بلا حراك في التابوت الخشبي قبل أن يوارى الثرى , اجتاحته ذكريات مريرة ومشاعر مختلطة ما بين الألم والحزن والغضب .. والشماتة أيضا .. تذكر كم أذاه هذا العجوز , وكيف ترك ندبا لا تمحى على روحه .
بعد الجنازة أراد دوني أن يذهب للمبيت في منزله , لكن أمه رفضت أن يدخل بيتها , كانت ناقمة عليه بسبب دخوله السجن . ولهذا حل ضيفا على منزل صديقه القديم بوب كيفير وزوجته جيني .
في المساء دخل دوني إلى الحمام الملحق بحجرة الضيوف الواقعة بالطابق العلوي من منزل صديقه , أراد أن يغسل يديه قبل أن ينزل لتناول العشاء مع بوب وجيني . وبينما هو يفرك يديه بالصابون , أحس فجأة بشعور غريب , بدا وكأن الهواء قد سحب بالكامل من المكان , واجتاحت جسده برودة شديدة , ثم راوده شعور غريب بأن هناك من يراقبه , رفع رأسه ونظر نحو المرآة المعلقة أمامه فوق المغسلة , فرأى عليها انعكاس وجه شاحب لرجل عجوز يشبه جده , كان العجوز ينظر إليه بطريقة غريبة وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة خبيثة صفراء
دوني ظن بأن العجوز يقف خلفه , فأدار وجهه بسرعة , لكن لم يكن هناك أحد , وحين عاود النظر نحو المغسلة مرة أخرى , شاهد برعب ندوبا حمراء ظهرت على يديه , لا يعلم من أين أتت , كأن شخصا ما قد أنشب أظافره في معصميه .
هذا هو بالضبط نفس السؤال الذي وجهه بوب للشرطيان جون بوجين و ريتشارد ولبيرت وهما يدخلان منزله بعد أن قام باستدعائهما لتحري ما يحدث . وتماما كما حدث مع رون وزوجته , فقد ظن الشرطيان بادئ الأمر بأن الأمر له علاقة بكسر في أنابيب المياه , لكن فيما هم يتفحصان الجدران حدث أمر لا يصدق , فالماء لم يعد ينهمر من السقف فقط , بل صار يقفز أفقيا من جدار إلى آخر , وصار يتدفق بالمقلوب من الأرضية نحو السقف ! ..
الشرطيان شعرا بالصدمة والرعب , لم يشاهدا شيئا كهذا في حياتهما ..
ثم فجأة صرخت جيني : "أنظروا إلى دوني ! " ..
فنظر الجميع إلى دوني الذي كانوا قد نسوه تماما في خضم انشغالهم وسعيهم لمعرفة مصدر المطر الغامض . دوني كان لا يزال جالسا على مقعده في زاوية الغرفة وهو ممسك بيده كوب القهوة , كان ساكنا وجامدا كأنه تمثال , وجهه شديد الشحوب , وهناك نظرة فارغة في عينه كأنما هو يسبح في عالم آخر ولا يعي شيئا مما يدور حوله .
الشرطيان نصحا بوب وجيني بإخراج دوني لأنه كان يبدو مريضا جدا , طلبوا منهم أن يذهبوا جميعا للانتظار في مطعم البيتزا المقابل للمنزل ريثما تقوم الشرطة بتحري ما يجري في المنزل بدقة .
العجيب هو انه حالما غادر دوني برفقة بوب وزوجته حتى توقف المطر داخل حجرة الجلوس .. والأعجب من ذلك هو أنه حالما جلس الثلاثة في مطعم البيتزا حتى بدأ المطر ينهمر فوق رؤوسهم .. هذه المرة داخل المطعم ! ..
صاحبة المطعم العجوز شاهدت ما يجري ونظرت مليا إلى دوني , لم يعجبها حاله , وهمست في أذن جيني قائلة بأنها تعتقد بأن دوني قد تعرض للمس الشيطاني وطلبت منهم مغادرة المطعم على الفور .. ولشدة دهشة الجميع .. ما أن غادر الثلاثة حتى توقف المطر داخل المطعم .
حين عاد بوب وزوجته ودوني إلى المنزل كان الشرطيان قد رحلا قائلين بأنهما سيجلبان مزيدا من الدعم لتحري الأمر . فجلس الثلاثة في المطبخ , وبدأت جيني تنظر إلى وجه دوني الشاحب بريبة كبيرة ورعب واضح . ثم مرة أخرى بدأت الأمور الغريبة تطل برأسها , هذه المرة بدأت الأواني والأطباق بالاهتزاز بشدة من تلقاء نفسها , في الحقيقة كان كل شيء في المطبخ يهتز كأنه يتعرض لزلزال . وهنا فقدت جيني صوابها فراحت تصرخ في دوني بغضب واتهمته بأنه السبب وراء كل هذه الأمور الغريبة التي حلت بمنزلها فجأة . لكن دوني لم يجبها , بدا وكأنه ما يزال غير واعيا لم يجري حوله , لكنه قام من مكانه فجأة ووقف بجانب الطاولة بلا حراك , ثم وسط ذهول بوب وصراخ جيني أرتفع في الهواء قليلا ثم اندفع وسقط على الجدار كأن أحدا ما قد قذفه بعيدا , وحين نهض من مكانه مرة أخرى بدا كشخص أستيقظ من النوم للتو , تلك النظرة الفارغة على وجهه تلاشت وعاد الهدوء للمنزل , لقد توقفت جميع الأمور الغريبة والغامضة .
غير أن الهدوء لم يدم طويلا , ففي اليوم التالي زار مدير الشرطة منزل بوب وجيني بعدما أخبره الشرطيان بأمر المطر الغامض , لم يصدقهما فأراد التأكد بنفسه , وفيما هو يتفقد المنزل عادت حالة التشنج الغريبة لدوني , تخشب في مكانه فجأة , وظهر ضباب خفيف سرعان ما أستحال إلى غمامة بيضاء أنسابت من فوق سلم الطابق العلوي نحو البهو , ووسط دهشة وذهول الجميع راحت الغيمة تبرق وترعد ثم أمطرت بغزارة فوق رأس مدير الشرطة ومرافقيه , ففر الرجل من المنزل وهو لا يلوي على شيء قائلا بأن هذه الحالات الماورائية ليست من اختصاص الشرطة وأنه ليس هناك أي شيء بإمكانهم أن يفعلوه للمساعدة .
عندما غادرت الشرطة كان الغضب قد أستبد بجيني , وكانت على وشك أن تطرد دوني من منزلها , لكن بوب أعترض على ذلك بسبب الصداقة القديمة التي تربطه بدوني , ولحسن حظ الزوجان فأن إجازة دوني كانت قد انتهت وكان في طريقه للعودة إلى سجنه .
دوني عاد لزنزانته , لم يكن قد أستوعب بعد ما حدث خلال الأجازة , جلس يتفكر في الأحداث العجيبة التي لاحقته منذ أن رأى وجه الرجل العجوز في مرآة الحمام , ثم فجأة برقت فكرة في رأسه .. تساءل مع نفسه .. يا ترى هل يستطيع جعل المطر ينهمر داخل الزنزانة ؟ ..
ولشدة ذهوله ظهر بالحال نفس ذلك الضباب الخفيف الذي شاهده في منزل بوب , ثم راحت قطرات الماء تتقافز بجنون فوق الجدران والسقف والأرضية .. لقد أمطرت داخل الزنزانة ! ..
حراس السجن شاهدوا ما يحدث داخل زنزانة دوني واتهموه بأنه يفعل ذلك متعمدا عن طريق رش الجدران والسقف بماء المرحاض , وهددوا بمعاقبته . لكن دوني أنكر تماما أن يكون قد رش الجدران بالماء , أخبر الحراس بأنه ولسبب غامض لا يعرفه هو نفسه , فأن بإمكانه جعلها تمطر في إي مكان وزمان . الحراس لم يصدقوا كلامه طبعا , طلبوا منه أن يثبت ذلك بجعلها تمطر فوق رأس السجين في الزنزانة المجاورة . وفعلا خلال لحظات قليلة ظهرت غمامة غامضة في الزنزانة المجاورة ثم بدأت تمطر فوق رأس السجين الآخر والذي كاد أن يغمى عليه من الرعب .
الحراس المذهولين راحوا يتفحصون جدران زنزانة دوني والزنزانة المجاورة بتمعن , ظنوا بأن في الأمر خدعة ما , ولمزيد من التأكد طلبوا من دوني أن يجعلها تمطر فوق رأس الضابط الخفر والذي يقع مكتبه في نهاية الرواق الذي تصطف الزنزانات على جانبيه . ولشدة دهشة الجميع لم تمض سوى دقائق حتى خرج ذلك الضابط من حجرته وهو يزبد ويرعد طالبا من الحراس أن يبحثوا عن سبب تدفق الماء من جدران وسقف حجرته ..
الحراس أخبروا الضابط عن حقيقة ما يجرى وعن قدرة دوني الخارقة في إنزال المطر .. حتى أنهم أطلقوا عليه أسم رجل المطر (Rain Man ) . فقام ضابط الخفر بدوره بنقل القصة إلى مدير السجن , وقام هذا الأخير بزيارة وامتحان دوني بنفسه , فتأكد من حقيقة قدراته , لكنه لاحظ بعين الريبة ذلك التغير الذي كان يطغى على وجه دوني حينما يهم بإنزال المطر , فتولدت لديه قناعة تامة في أنه ممسوس , ولهذا خاطب كنيسة مجاورة للسجن وطلب منهم أن يرسلوا أحد القساوسة لإجراء طقوس طرد الأرواح الشريرة من جسد دوني . وبالفعل حضر القس , وما أن دخل إلى زنزانة دوني حتى ظهر ذلك الضباب الغامض من جديد وأعمى الأبصار . لكن القس لم يشعر بالخوف , فقد شاهد أمور كهذه من قبل . وتختلف الروايات حول الوقت الذي استغرقته الطقوس , البعض يقول أنها استغرقت عدة ساعات وشهدت حدوث أمور مرعبة , فيما يقول آخرون بأنها لم تستغرق سوى بضعة دقائق .. وبغض النظر عن الوقت الذي استغرقته فقد تخلص دوني نهائيا من ذلك الشر الذي تلبس جسده ولم تعاوده تلك الحالة منذ ذلك الحين .
حالة دون ديكر تعتبر من أكثر حالات المس الشيطاني شهرة , فهي حالة فريدة من نوعها , ليس لغرابة أحداثها فقط , وإنما لوجود الكثير من الشهود الذين أكدوا مصداقيتها . وقد جرى تناول القصة في عدة برامج تلفزيونية أشهرها هو مسلسل شهود الخوارق (Paranormal Witness ) الموسم الأول عام 2011 .
0 التعليقات